فصل: مسألة القاضي يشهد على قضاء قضائه وهو معزول أو غير معزول أتقبل شهادته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة وكل رجلا على القيام له والخصومة عنه في حظ له ببلد من البلدان:

وسألته عن رجل وكل رجلا على القيام له والخصومة عنه في حظ له ببلد من البلدان، وفوض إليه ببيع حظه ذلك إذا استحقه له، وجعل لوكيله ذلك إن أحب أن يشتري ذلك الحظ بما يعطي فيه فذلك له، وإن كره أن يشتري باعه له واجتهد فيه، فيقدم وكيله ذلك البلد الذي فيه طلب الرجل الذي وكله، فألفى حانوتا مما كان فيه حق لذلك الغائب قد بيع، فأثبت وكالته من ذلك الغائب عند القاضي وتفويضه إليه، وإن سهم ذلك الغائب في ذلك الحانوت، وكان رجل قد ابتاع الحانوت من غير ذلك الغائب، فتداعيا وكيل الغائب، والذي ابتاع الحانوت إلى الصلح في الحانوت فاصطلحا على أن أخذ الوكيل للغائب نصف قاع الحانوت وعلو الحانوت كله، فلما أحضر الشهود لوثيقة أحدهما من صاحبه، أشهدهم الوكيل أنه صالح على أنه أخذ لصاحبه نصف قاع الحانوت وعلو الحانوت، وأسلم للذي كان الحانوت في يديه نصف القاع، وشهد له بذلك الوكيل، وأشهد في ذلك المجلس أنه أخذ لنفسه ما صالح عليه الذي وكله من نصف القاع والعلو بكذا وكذا دينارا مع الصلح، فقال: إنني أصالحه على أن آخذ لصاحبي ما سميت، وإني اشتريت ذلك لنفسي بكذا وكذا، ولم يكن فيه شرط مصالحة، ثم أشهد أني أخذته لنفسي بكذا وكذا، فزعم الذي صولح على نصف القاع أنه قد صار شريكا لذلك الغائب بوكالته إياه، فهل ترى أن تكون الشفعة فيما اشترى صاحبه من حظ الغائب بنصف قاع الحانوت، وأن له في مثل هذا شفعة على ما فسرت لك في الوجهين جميعا أم لا؟ فقال: قد فهمت ما ذكرته، والشفعة لازمة للشريك ثابتة وهو عندي بين، وقال أشهب: لا أرى الشفعة فيه، وإنما منعه من الشفعة أنه بيع مفسوخ، إلا أن يجيز الذي له نصف الحانوت، ولو كان البيع جائزا؛ لكانت الشفعة للشريك في الحانوت، ولم تكن له شفعة في علوه؛ وذلك لأن الشركة بينهما في بطن الحانوت، ولم تكن بينهما في علوه، وإن كان الصلح بينهما إنما وقع على أن يأخذه لنفسه، والصلح بينهما أيضا منتقض؛ لأن الشريك إنما رضي بمصالحته ليأخذ بالشفعة، فصار الوكيل قد أخذ لما أسلم إليه من الشفعة ثمنا، وذلك غير جائز.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة فيها نظر من قول ابن القاسم، وقول أشهب في مواضع، منها أنه أمضى الصلح على الموكل، ولم يذكر في التوكيل، ومن قولهم: إنه ليس للوكيل أن يتجاوز ما سمي له في التوكيل، ومنها أنه أمضى البيع عليه، وإنما أذن له أن يأخذه بما يعطي فيه، فأخذه بما أراد دون أن يسوقه أو يعطي فيه شيئا، ومن ذلك أنه أوجب للمصالح الشفعة إيجابا مجملا، ولم يخص سفلا من علو، والشفعة إنما تصلح أن تكون في السفلى الذي حصلت الشركة بينهما فيه بنفس الصلح، لا في العلو؛ إذ لا شركة بينهما فيه، فيصح قول ابن القاسم على أن يتأول على أنه أراد بقوله: إن الشفعة لازمة للشريك ثابتة، أي في نصف السفلى بما يقع عليه من الثمن إذا فض على العلو ونصف السفلى، فيصير للمصالح الشفيع جميع السفلى، نصفه بالصلح ونصفه بالشفعة، ويبقى للوكيل جميع العلو، ويكون معناه إذا أجاز الغائب للوكيل الصلح والبيع؛ لأن من حقه ألا يجيز شيئا من ذلك، وله أن يجيز جميعه، وله أن يجيز الصلح ويرد البيع، وهذا كله بين.
وقول أشهب: إنه لا شفعة في ذلك إلا أن يجيز الغائب البيع صحيح. وأما إجازته الصلح إذا تقدم البيع، ولم يكن معه في صفقة واحدة ففيه نظر على ما قلناه؛ إذ لم يذكر الصلح في التوكيل. وأما قوله: إنه إن وقع الصلح مع البيع في صفقة واحدة فهو منتقض، معناه إن أراد الغائب أن ينقض البيع، ولم يرد أن يجيزه للعلة التي ذكرها، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يكون له الزرع فتعبر فيه دواب الناس فتفسده:

من سماع أصبغ من ابن القاسم من كتاب الأقضية والحبس قال أصبغ بن الفرج: سألت ابن القاسم عن الرجل يكون له الزرع فتعبر فيه دواب الناس فتفسده، فيريد صاحب الزرع أن يحفر حول زرعه حفيرا لمكان الدواب، وقد تقدم إلى أصحابها وأنذرهم، فيحفر فيقع بعض تلك الدواب في ذلك الحفر فتموت، أترى عليه ضمانا؟ قال: لا شيء عليه، ولو لم ينذرهم، ولم يتقدم إليهم. وقاله أصبغ، وهو قول مالك إن شاء الله.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال؛ لأنه إنما فعل ما يجوز له أن يفعله من الحفير في أرضه وحقه تحصينا على زرعه، لا لإتلاف دواب الناس، ولو فعل ذلك لإتلاف دواب الناس للزمه الضمان على ما قاله في المدونة، في الذي يصنع في داره شيئا ليتلف فيه السارق أو غير السارق أنه ضامن له، وبالله التوفيق.

.مسألة الدار يكون لواحد سفلها وللآخر علوها على من يكون كنس تراب القاعة:

ومن كتاب الأقضية والوصايا:
قال أصبغ بن الفرج: سألت أشهب بن عبد العزيز عن الدار يكون لواحد سفلها، وللآخر علوها، على من يكون كنس تراب القاعة وما يجتمع فيها؟ قال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء. قال أصبغ: وإنما ذلك ما يجتمع فيها من كناستها من غير ما يطرحه الأعلى من عليته فيها، وليس للأعلى أن يلقي فيها من ترابه ولا كناسته شيئا ولا شيئا مما يلقيه، وكذلك قال لنا أشهب: إنه ليس له أن يطرح فيها شيئا، ولا إن كان يعز له في موضع من سفلها ليحمله، فليس ذلك له، هذا معناه، ولا يشغل منها موضعا على صاحب الأسفل، إلا أن يكون له في قسمته أو حقه المرتفق بالقاعة أو المنافع فيها. وقال أصبغ: سئل أشهب على من عليه غلق باب الدار، قال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء. قال أصبغ: وسئل أشهب عن كنس المرحاض إذا كان المرحاض واحدا. فقال: على الأسفل، وليس على الأعلى منه شيء؛ لأنه للأسفل، وإنما للأعلى الحق فيه يطرح سقاطته، وإنما هو بمنزلة السقف، على الأسفل إصلاحه؛ لأنه سقفه، وللأعلى الانتفاع به فقط. قال أصبغ: مثله كله إلا كنس الكنيف، فإنه على الأسفل والأعلى على قدر الجماجم والمستعمل. قال أصبغ مثله. وسألت ابن وهب عن كنس المرحاض، فقال: أراه بينهما على الجماجم، وهو أحب القولين، وما سمعت إلي.
قال محمد بن رشد: أما أشهب فجرى على أصل واحد في غلق الباب، وكنس الكنيف، وكنس قاعة الدار، يريد إن من حقه في أصل ما اقتسموا عليه أن يرتفق بطرح سقاطته في قاعة الدار، أن ذلك كله على صاحب الأسفل، وعلى أصله هذا أوجب تنقية كنيف الدار المكتراة على رب الدار، وأما تفرقة أصبغ بين غلق الباب وكنس الكنيف فليس بقياس؛ لأن غلق الباب منفعة لهما جميعا، كما أن الكنيف منتفع لهما جميعا، فوجب أن يكون عليهما جميعا، ألا ترى أنه لو ترك صاحب الأسفل غلق بابه لاستغنى به عنه؛ لكون أسفله خاليا من متاعه أو منه، ومن متاعه لم يجبر على ذلك عند أصبغ، وأما على مذهب أشهب فيجب عليه غلق الباب على كل حال، وقد قال ابن القاسم مثل قول أشهب في مسألة رسم باع شاة، من سماع عيسى، من كتاب جامع البيوع، وعليه يأتي ما روي عنه من أن كنس مراحيض الدور المكتراة على أرباب الدور. والمشهور عنه خلافه أن ذلك على المكتري، وهو على قياس قول أصبغ وابن وهب في هذه الرواية. وقد مضى القول على ذلك كله هناك، وبالله التوفيق.

.مسألة القاضي يقضي بما يختلف فيه وينفذه ثم يريد بعد ذلك تغييره:

ومن كتاب الكراء والأقضية:
قال أصبغ: سألت ابن القاسم عن القاضي يقضي بما يختلف فيه وينفذه، ثم يريد بعد ذلك تغييره، قال: ذلك له يغيره إذا رأى أحسن منه. قلت: فإن عزل وولي غيره أيكون له أن يغيره؟ قال: لا، قلت: فإن عزل هو ثم رد، فأراد تغييره؟ قال: ليس ذلك له، وقاله أصبغ كله. وقال: عزله ورده كعزله وتولية غيره فيما يرجع وما لا يرجع، تولى بعد ذلك فأقره غيره بعد عزله قبل رده، أو رد بولاية ثانية قبل غيره، فذلك سواء، وليس له تغييره بعد ذلك، ولا ذلك من الفقه.
قال القاضي: لا اختلاف في أن الحكم الخطأ الصراح الذي لم يختلف فيه يرثه هو ومن بعده من القضاة والحكام، وأما ما اختلف فيه، فيرده هو إذا رأى أحسن منه على مذهب أصحاب مالك كلهم، حاشا ابن عبد الحكم، ولا يرده من بعده إلا أن يكون خلاف سنة قائمة، أو يكون الخلاف شاذا فيختلف في ذلك، وقد مضى القول على هذا المعنى مستوفى في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا معنى لإعادته.
وقوله هاهنا: إن رده بعد عزله كتولية غيره فيما يرجع فيه، وما لا يرجع صحيح، لا أعلم فيه اختلافا، وبالله التوفيق.

.مسألة يخرج لسفر فيستخلف على ماله رجلا فيأتي مستحق له:

قال أصبغ: وسألت ابن القاسم عن الرجل يخرج إلى سفر، فيستخلف على داره وأرضه رجلا، أو يستودعه غلاما أو دابة، ثم يأتي من يستحق بعض ذلك، هل يمكن منه؟ قال: أما الدابة والغلام فنعم، ينتزع منه للمستحق إذا ثبت حقه، ويدفع إليه؛ لأن الفوت يدخل ذلك، وأما الدار والمنزل فيستأنى به، ويكتب إلى الموضع الذي هو به لعله يكون له فيه خصومة أو حجة؛ لأنه أمر مأمون، إلا أن يطول زمان ذلك جدا ولا يوجد، أو تكون غيبته بالموضع البعيد المنقطع من الأرض، مثل الأندلس وخراسان، وما أشبه ذلك من المواضع التي لا يطمع فيمن به، فإني أرى السلطان أن ينظر في ذلك. قال أصبغ: نظر السلطان عند ذلك أن يمكنه من إثبات حقه ويسمع منه، ويجعل للغائب وكيلا إن لم يكن له وكيل يدفع عنه، ويقضي للطالب وعليه كمثل الغريم، وكمثل القضاء على غائب في الأموال وغيرها.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة قد مضى تحصيل القول فيها في رسم سن، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادة شيء من ذلك. وقول أصبغ: إذا حكم على الغائب البعيد الغيبة في الأصول يقيم له وكيلا هو مذهب ابن الماجشون، وعلى أصله في أن الغائب إذا حكم عليه لا ترجى له حجة؛ لأنه قد أعذر إلى الوكيل الذي أقيم له، فكان ذلك كالإعذار إليه، خلاف ما ذهب إليه ابن القاسم أنه لا يقام له وكيل، ويكون على حجته، وكذلك على مذهبه يقيم للغائب المحكوم عليه في غير الأصول وكيلا يعذر إليه، فلا تكون له حجة إذا قدم، وقول ابن القاسم أظهر؛ لأن الوكيل المقدم له قد يجهل وجوه منافعه، فيكون الضرر الداخل عليه بانقطاع حجته إذا قدم أكثر من انتفاعه بالدفع عنه، وبالله التوفيق.

.مسألة القاضي يشهد على قضاء قضائه وهو معزول أو غير معزول أتقبل شهادته:

ومن كتاب القضاء المحض:
قال أصبغ: وقال لي ابن القاسم في القاضي يشهد على قضاء قضائه وهو معزول أو غير معزول، أو يرفعه إلى إمام غيره: إن شهادته لا تقبل، ولا يجوز ذلك القضاء إلا بشهيدين عليه، غيره أنه قد قضى به، وقاله أصبغ.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة وقعت في بعض الروايات، وهي مسألة صحيحة، وفيها معنى خفي، وهو أن قول القاضي وهو على قضائه: حكمت لفلان بكذا لا يصدق إذا كان يعني الشهادة. قوله مثل أن يتخاصم الرجلان عند القاضي فيكون من حجته أن يقول: قد حكم لي قاضي بلد كذا وكذا بكذا وكذا، فيسأله البينة على ذلك، فيذهب إليه فيأتيه من عنده بكتابه: إني قد حكمت لفلان على فلان بكذا وكذا، أو أنه قد ثبت عندي لفلان على فلان كذا وكذا، فلا يجوز هذا، من أجل أنه على هذا الوجه شاهد. ولو أتى الرجل ابتداء إلى القاضي، فقال له: خاطب لي قاضي بلد كذا بما ثبت لي عندك على فلان، أو بما حكمت لي به عليه، فخاطبه بذلك؛ لجاز من أجل أنه مخبر، وليس بشاهد، كما يجوز قوله، وينفذ فيما يسجل له على نفسه ويشهد من الأحكام ما دام على قضائه.
وقد روى لابن الماجشون ومطرف وأصبغ في الأقضية من الواضحة ما يعارض رواية أصبغ هذه، وقد ذكرنا ذلك في أول سماع ابن القاسم، فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة المخالطة التي يستوجب بها المدعي على المدعى عليه اليمين ما هي:

قال أصبغ: سمعت ابن القاسم، وسئل عن المخالطة التي يستوجب بها المدعي على المدعى عليه اليمين ما هي؟ قال: يسالفه فيبيعه ويشتري منه، فقيل: أرأيت إن ادعى عليه وجاء شهود يشهدون أنه باع منه أمس، واشترى منه سلعة بمائة دينار، فقبض هذا المائة وهذا السلعة وتفاصلا؟ قال: لا أرى هذا مخالطة، إلا أن يكون قد باعه مرة ومرة ومرارا، فأرى هذا مخالطة، وإن كانا يتقابضان في ذلك كله الثمن والسلعة، ويتفاصلان قبل أن يتفرقا، فإن شهد عليه بذلك فأراها مخالطة، وقاله أصبغ، قال: وكل ما خالطه فثبت بتاريخ قديم يمكن المعاملات بينهما، ليس بعدهما، وإن لم تتصل وانقطعت فهي عندي مخالطة، ويستحلف بها بالله إن شاء الله، وسئل عنها سحنون فقال مثله، قال سحنون: ولا تكون المخالطة إلا في البيع والاشتراء بين الرجلين، ولو ادعى أهل السوق بعضهم على بعض لم تكن مخالطة حتى يقع البيع بينهم، قيل: فمثل أهل منزلك ومسجدك يجتمعون فيه للصلوات والأنس والحديث، فادعى بعضهم على بعض؟ قال: لا تكون هذه مخالطة إلا بمثل ما وصفت لك.
قال القاضي: مذهب مالك وكافة أصحابه: أن اليمين لا يحكم بها للمدعي على المدعى عليه بمجرد الدعوى دون خلطة، على ما جاء عن عمر بن عبد العزيز رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من أنه لم يكن يحلف من ادعى على رجل دعوى، إلا أن تكون بينهما مخالطة وملابسة، وهو قول جماعة من علماء المدينة. روي عن القاسم بن محمد منهم أنه قال: إذا ادعى الرجل الفاجر على الرجل الصالح شيئا يعلم الناس فيه أنه كاذب، ولا يعلم أنه كان بينهما أخذ ولا عطاء لم يستحلف، فلم يحملوا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر» على عمومه، في أن كل من ادعى على أحد دعوى وجبت له عليه اليمين، وخصصوا من ذلك من لم تكن له خلطة، فلم يشبه قوله وغلب على الظن كذبه، كما خصصوا من ذلك يمين الزوج والسيد في دعوى الطلاق والعتق.
وقد قال إسماعيل القاضي: إن معنى قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «البينة على من ادعى، واليمين على المدعى عليه» أنه لا يقبل قول المدعي فيما يدعيه مع يمينه، وأن المدعى عليه يقبل قوله مع يمينه، وإن لم تقم عليه بينة، لا أنه أراد بذلك العموم في كل من ادعى عليه دعوى أنه يجب عليه اليمين، فلا يجب اليمين على مذهب مالك وكافة أصحابه بمجرد الدعوى دون خلطة إلا في خمسة؛ الغريب في البلد يدعي أنه أودع الرجل الفاضل من أهل البلد وديعة؛ لأن الغريب يعمد إلى من بلغه عنه خير، فيودعه وإن لم يعرفه قبل، والمسافر يدعي أنه قد أودع أحدا من أهل رفقته؛ إذ قد يفزع في سفره إلى من لم يخالطه، فيستودعه لأمر يخافه من آفات السفر، والرجل يدعي على الصانع الذي قد نصب نفسه للعمل أنه دفع إليه متاعا يصنعه، والرجل الغريب، أو من أهل البلد يدعي على أحد من أهل الأسواق الذين قد نصبوا أنفسهم للبيع والشراء أنه عامله باع منه أو اشترى.
روي ذلك عن سحنون، وهو دليل قوله في هذه الرواية، ولو ادعى أهل الأسواق بعضهم على بعض، لم تكن مخالطة حتى يقع البيع بينهم؛ لأن في ذلك ما يدل على أن دعوى غير أهل الأسواق على أهل الأسواق، خلاف دعوى أهل الأسواق بعضهم على بعض؛ لأن أهل الحوانيت والأسواق إنما نصبوا أنفسهم للبيع والشراء من غير أهل الأسواق، لا من أهل الأسواق، والرجل يذكر في مرضه الذي مات منه أن له دينا على رجل، ويوصي أن يتقاضى منه، فإن لورثته أن يحلفوه إن أنكر دون خلطة؛ إذ لا يعرفون من يشهد لهم بها.
روي ذلك عن مالك، ومثله في سماع عيسى، من كتاب المديان والتفليس، وقال في هذه الرواية: إن المبايعة الواحدة ليست بخلطة توجب اليمين حتى يبايعه مرة ومرة ومرارا، وفي بعض الكتب مرة ومرة ومرَّة، وهو صواب الكلام، وفي رسم الصبرة من سماع يحيى، من كتاب الشهادات ما ظاهره أن المعاملة الواحدة خلطة توجب اليمين، خلاف هذه الرواية. وقيل: إن رواية يحيى تفسير لهذه، فيكون المعنى فيها أنها قد تضاف إلى معاملة قبلها، فيصير بذلك خلطة.
قال محمد بن رشد: ولا أقول: إنها مخالفة لها، ولا مفسرة لها، وإنما أقول: إنها مسألة أخرى؛ لأنه تكلم في هذه الرواية على أنهما تقابضا وتناجزا، وتكلم في سماع يحيى على المبايعة بالدين، والمبايعة الواحدة لا توجب الخلطة إذا كانت بالنقد والتناجز على ما هاهنا، وتوجبها إذا كانت المبايعة بالدين على ما في سماع يحيى، وإنما الخلاف عندي إذا كانت المبايعة الواحدة بالنقد، فلم يقع النقد ولا حصل التناجز، ففي الشهادات من المدونة: أنها ليست بخلطة، وفي كتاب ابن المواز: أنها خلطة، إلا أنه لم يوجب اليمين إذا لم يثبت ما قاله الغائب.
وقوله: وجاء بشهود يشهدون، الظاهر منه أن الخلطة لا توجب اليمين حتى يثبت بما يثبت به الحقوق من شاهدين أو شاهد وامرأتين، ومثله في نوازل سحنون من كتاب الشهادات، وفي المبسوطة لابن كنانة، وابن القاسم أن شهادة الشاهد الواحد بها توجب اليمين. وقال في سماع حسين بن عاصم، من كتاب الشهادات في بعض الروايات: إن شهادة شاهد واحد وامرأة واحدة بالخلطة توجب اليمين، وقد قيل: إنها توجب باليمين مع الشاهد.
وقد روي ذلك عن ابن نافع، وابن كنانة، وإذا ثبتت الخلطة، فلا يرتفع حكمها بانقطاعها على قول سحنون في هذه الرواية، وفي أحكام ابن زياد عن أصبغ وسحنون: أن اليمين لا تجب إلا بخلطة متصلة، وفي المبسوطة لابن نافع أنه قال: لا أدري ما الخلطة، ولا أراها، ولا أقول بها، وأرى الأيمان واجبة للمسلمين عامة بعضهم على بعض؛ لحديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «البينة على من ادعى، واليمين على من أنكره».
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وأصحابهما، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور؛ إلى أن اليمين واجبة بمجرد الدعوى في جميع الدعاوي من الأموال وغيرها، وحجتهم حديث ابن عباس: «لو يعطى ناس بدعواهم؛ لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر»؛ لأنهم تعلقوا بظاهره، فحملوه على عمومه، ولا حجة لهم على مالك في تعلقهم بعموم الحديث؛ إذ لابد لهم من أن يخصصوه في بعض المواضع بالمعنى الذي خصصه به مالك حيث خصصه، وذلك في مثل أن تريد المرأة أن تحلف زوجها في يوم واحد مرارا أنه ما طلقها، وإذا كان ذلك على عمومه كذلك، فلم تبق لهم حجة إلا مجرد قولهم بأن نظرهم أصح من نظره، وهذا ينعكس عليهم، فلا يجدون عن الخروج عنه محيصا، وبالله التوفيق.

.مسألة الملد من الخصوم يعاقب:

وقال أصبغ في الملد من الخصوم، وأخبر بمحضرنا عن أبي الطاهر بن حزم القاضي أنه علقه على رجل واحد، فقيل لأشهب: أترى ذلك؟ فقال: أما الملد الظالم فنعم.
قال القاضي: هذا كما قال؛ لأن إلداد أحد الخصمين بصاحبه إضرار به، وواجب على الإمام أن يمنع من ذلك، ويعاقب عليه بما يؤديه اجتهاده إليه، وقد تقدم مثل هذا في رسم تأخير صلاة العشاء، من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل يحضر ببينة أيوقعها له القاضي بغير محضر الخصم:

وسئل عن الرجل يحضر ببينة أيوقعها له القاضي بغير محضر الخصم؟ فقال: ما أرى بذلك بأسا، قيل له: فإن أتى بعد ذلك الخصم، فقال للقاضي: اعرض علي شهادتهم، فإن كان فيها ما يضرني دفعته. فقال: أرى ذلك له. فقيل له: بغير محضر صاحبه؟ فقال: ما أبالي حضر أو لم يحضر، قال أصبغ: مثله، وهذا محض القضاء.
قال القاضي: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن من حق المشهود عليه أن يعرض عليه ما شهد به عليه، ويعذر إليه فيه، ولا حق للمشهود له في أن يكون ذلك بحضرته، كما أنه لا حق للمشهود عليه في أن يشهد الشهود عليه بحضرته، والله الموفق لا شريك له، اللهم عونك.

.مسألة تخاصم النصرانيان إلى الأسقف فأبى الحكم وردهما لحكم المسلمين:

من مسائل نوازل سئل عنها سحنون قال سحنون: إذا تخاصم النصرانيان إلى الأسقف، فأبى الأسقف أن يحكم بينهما، وردهما إلى حكم المسلمين؛ فإنه من الجور عليهما، إذا كان النصرانيان لا يريدان أن يحكم بينهما حكم المسلمين، فلا يكون ذلك للأسقف، ولا ينبغي لحاكم المسلمين أن يحكم بينهما، وإن رضي النصرانيان جميعا أن يحكم بينهما حكم المسلمين، وأبى الأسقف أن يردهما إلى حكم المسلمين لم يكن ذلك له، وكان للنصرانيين أن يحكم بينهما حكم المسلمين، ولا يحكم بينهما الأسقف.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في أنه لا يجوز لحكم المسلمين أن يحكم بينهما برضا الأسقف إذا أبياهما من ذلك أو أحدهما، وأما إذا رضي النصرانيان أن يحكم بينهما حكم المسلمين، وأبى الأسقف، فقول سحنون: أنه لا يلتفت إلى إباية الأسقف، ولحكم المسلمين أن يحكم بينهما إذا رضيا وإن كره أسقفهما، وروى عيسى، عن ابن القاسم في رسم العارية من كتاب السلطان أنه لا يحكم بينهما إلا برضا منهما ومن أساقفتهما، وذلك يحمل على التفسير لما في المدونة؛ لأن تفسير قوله بقوله أولى من تفسيره بقول سحنون، وهذا في البيوع والطلاق والعتق والحدود.
وأما فيما يتظالمون به، فلا اختلاف بين أحد من أهل العلم في أنه يجب عليه أن يحكم بينهم فيه، وإن لم يتحاكموا إليه، ولا رضوا بحكمه، وقد ذهب بعض أهل العراق إلى أنه يجب عليه أن يحكم بينهم إذا جاءوه ورضوا بحكمه، ومنهم من قال: إنه يجب عليه أن يحكم عليهم في الحدود شاءوا أو أبوا، وإن لم يحكموه ولا رضوا بحكمه.
ففي الحدود التي يجب على الإمام أن يحكم فيها على المسلمين وإن لم يترافعوا إليه فثلاثة أقوال؛ أحدها: أنه يجب عليه أن يحكم عليهم فيها، وإن لم يحكموه. والثاني: أن ذلك لا يجب عليه إلا أن يحكموه. والثالث وهو مذهب مالك: أن ذلك لا يجب عليه وإن حكموه.
وفي البيوع والنكاح والمعاملات وما أشبه ذلك، مما لا يجب على الإمام أن يحكم فيه على المسلمين إلا أن يترافعوا إليه قولان؛ أحدهما: أنه يجب عليه أن يحكم بينهم فيما إذا ترافعوا إليه ورضوا بحكمه. والثاني وهو مذهب مالك: أن ذلك ليس عليه بواجب، وله أن يحكم؛ لقول الله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] الآية وأما ما يتظالمون به، فلا خلاف بين أحد من المسلمين في أنه يجب عليه أن يحكم عليهم فيه، ويمنع من التظالم بينهم، شاءوا أو أبوا. وقد مضى في رسم لم يدرك، من سماع عيسى، من كتاب التجارة إلى أرض الحرب في هذه المسألة زيادة بيان، وبالله التوفيق، وهذه المسألة وقعت في بعض الروايات في أول نوازل سحنون هذه.

.مسألة قامت المرأة طالبة النفقة على مال زوجها فيحكم لها بالنفقة وهو غائب:

قال سحنون: من الحجة على أهل العراق في القضاء على الغائب أن يقال لهم: أرأيت إذا قامت المرأة طالبة النفقة على مال زوجها، فمن قولهم: إنه يحكم لها بالنفقة وهو غائب، ومن الحجة عليهم أن الغائب لو وكل وكيلا على بيع ماله، فأقام الوكيل على وكالة الغائب إياه البينة، أيكون له البيع؟ فمن قولهم: أن نعم، فإذا أمكن الوكيل من البيع والتقاضي، فقد أجازوا الحكم على الغائب.
قال محمد بن رشد: أهل العراق لا يرون أن يحكم على الغائب، لا في الأصول، ولا في العروض، وسحنون يذهب إلى أنه يحكم عليه في جميع ذلك، وحجته على أهل العراق ما ذكره، ومالك يرى أن يحكم عليه في العروض، ولا يحكم عليه في الأصول، إلا أن تكون الغيبة بعيدة منقطعة، وقد مضى تحصيل القول في هذه المسألة، في رسم سن، من سماع ابن القاسم، فلا معنى لإعادته، ومضى أيضا في رسم الكراء والأقضية، من سماع أصبغ، طرف من التكلم عليها، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل إذا أوجب نفقة أبوية أواجب عليه أن يضحي عنهما:

قلت: فالرجل إذا أوجب نفقة أبوية، أواجب عليه أن يضحي عنهما؟ قال: لا، وليس عليه أن يضحي عن امرأته، وذلك قول مالك.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن الضحية ليست من النفقة التي تجب عليه لأبويه إذا ألزم نفقتهما ولا لزوجته، وإنما هي سنة لا ينبغي له تركها، فإن أدخل زوجته في ضحيته أجزأها، وإلا كان عليها أن تضحي عن نفسها من مالها، وفي سماع ابن القاسم من كتاب طلاق السنة أن السلطان لا يكره أحدا على أن يحجم أباه، ولا على أن ينكحه، وقد مضى القول على ذلك هناك مستوفى، فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة القاضي يشهد عند ابنه أو ولد ولده على رجل:

قال سحنون في القاضي يشهد عند ابنه أو ولد ولده على رجل: لا أرى أن تجوز شهادته، إلا أن يكون الولد أو ولد الولد مبرز العدالة، بين الفضل، لا يشك فيه، فحينئذ أرى أن تجوز شهادته.
قال محمد بن رشد: شهادة الأب عند ابنه، أو الابن عند أبيه، وشهادة كل واحد منهما على شهادة صاحبه، وشهادة كل واحد منهما على حكم صاحبه، وشهادة كل واحد منهما مع شهادة صاحبه، هذه الأربعة مسائل الحكم فيها كلها سواء، والاختلاف فيها كلها واحد. قيل: إن ذلك جائز، وهو قول سحنون؛ لأنه أجاز في نوازله من كتاب الشهادات شهادة الأب على قضاء ابنه بعد عزله، وأجاز هنا شهادته عنده، إلا أنه شرط أن يكون مبرزا في العدالة، وذلك ينبغي أن يحمل على التفسير؛ لقوله في سائر المسائل المذكورة، فكذلك يجوز على مذهبه شهادته على شهادته، وشهادته مع شهادته إذا كان مبرزا في العدالة، وهو قول مطرف؛ لأنه أجاز في الواضحة شهادة كل واحد منهما مع شهادة صاحبه، وشهادته على قضائه بعد عزله، وشهادته على شهادته، فكذلك شهادته عنده، لا فرق بين ذلك. وقيل: إن ذلك لا يجوز، وهو قول أصبغ؛ لأنه لم يجز في نوازله من كتاب الشهادات شهادة واحد منهما على شهادة صاحبه، وذلك الذي يأتي على مذهبه في سائر المسائل المذكورة، وفرق ابن الماجشون بين شهادة كل واحد منهما مع صاحبه، وشهادته على شهادته، وبين شهادته على حكمه بعد عزله، فأجاز شهادته مع شهادته، ولم يتهم الآخر منهما على أنه إنما أراد إتمام شهادة ابنه وأبيه وتحقيقهما، وشهادته على شهادته، ولم يتهمه على أنه إنما أراد إحياء شهادته، ولم يجز شهادته على حكمه بعد عزله، وذلك تناقض من قوله.
وأما تعديل واحد منهما لصاحبه، فلا يجوز عند واحد من أصحاب مالك فيما علمت، إلا ابن الماجشون فإنه قال: إذا لم يكن التعديل نزعه، وليس له قام، وإنما الذي نزعه وقام به أحيا شهادته، فلا بأس أن يصفه بالذي تتم به شهادته من عدالته، وفيه بعد، والله أعلم.

.مسألة القوم يكونون في المنزل فيحجر الرجل على حق له وأرض يغرسها:

وسألته عن القوم يكونون في المنزل، فيحجر الرجل على حق له، وأرض يغرسها، وقد كان أهل المنزل يسلكون طريقا فينهاهم وغيرهم، فقاموا عليه فقالوا: قطعت طريقنا فأنكر أن يكون طريقا لهم لازمة، فتنازعوا إلى الحكم، فأتى الذين زعموا أنها طريق لهم ببينة، فشهدوا أنهم يعرفونها طريقا يسلكها الناس منذ عشرين سنة، ويأتي الذي في أرضه الطريق ببينة، فشهدوا أنها طريق محدثة بلا حق، فأي البينتين أحق أن يقبل؟ قال سحنون: هذا كثير ما يكون بين المنازل، ويختصر الناس في الأراضي، وربما قطعها الحرث حتى ربما كانت القرية تؤتى من غير طريق، وربما تساهل الناس في أرضهم لاستبعادهم عن ذلك، فإذا ثبت أن هذه الطريق من تلك الأرض، فليست بلازمة لصاحب الأرض، إلا أن تكون الطريق الحاملة التي تركت من غير وجه، ويطول ذلك ويقطع مدة كونه الزرع في اتساعها، وطول زمانها الخمسين والستين سنة. فأما الطريق المختصرة فليست بحجة على صاحبها، إذا ثبت ذلك كما ذكرت لك.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة صحيحة بينة المعنى، لا أعرف ما يخالفها، ولا ما يعارضها، وبالله التوفيق.